(في تعريف البدع وبيان معناها وما اشتق منه لفظاً)
وأصل مادة ((بدع)) للاختراع على غير مثال سابق، ومنه قول الله تعالى: {بَدِيعُ السَّموَاِت والأرْضِ}(1) أي مخترعهما من غير مثال سابق متقدم، وقوله تعالى: {قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِن الرُّسُل}(2) ، أي ما كنت أول من جاءَ بالرسالة من اللّه إلى العباد بل تقدمني كثير من الرسل، ويقال: ابتدع فلان بدعة يعني ابتدأ طريقة لم يسبقه إليها سابق. وهذا أمر بديع، يقال في الشيء المستحسن الذي لا مثال له في الحسن، فكأنه لم يتقدمه ما هو مثله ولا ما يشبهه.
ومن هذا المعنى سميت البدعة بدعة، فاستخراجها للسلوك عليها هو الابتداع، وهيئتها هي البدعة، وقد يسمى العمل المعمول على ذلك الوجه بدعة: فمن هذا المعنى سمي العمل الذي لا دليل عليه في الشرع بدعة، وهو إطلاق أخص منه في اللغة فالبدعة إذن عبارة عن ((طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه)) وهذا على رأي من لا يدخل العادات في معنى البدعة، وإنما يخصها بالعبادات، وأما على رأي من أدخل الأعمال العادية في معنى البدعة فيقول: ((البدعة طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها ما يقصد بالطريقة الشرعية)) ولا بد من بيان ألفاظ هذا الحد. فالطريقة والطريق والسبيل والسنن هي بمعنى واحد وهو ما رسم للسلوك عليه وإنما قيدت بالدين لآنها فيه تخترع وإليه يضيفها صاحبها وأيضاً فلو كانت طريقة مخترعة في الدنيا على الخصوص لم تسم بدعة كإحداث الصنائع والبلدان التي لا عهد بها فيما تقدم.
ولما كانت الطرائق في الدين تنقسم ـ فمنها ما له أصل في الشريعة، ومنها ما ليس له أصل فيها ـ خص منها ما هو المقصود بالحد وهو القسم المخترع، أي طريقة ابتدعت على غير مثال تقدمها من الشارع، إذ البدعة إنما خاصتها أنها خارجة عما رسمه الشارع، وبهذا القيد انفصلت عن كل ما ظهر لبادي الرأْي أنه مخترع مما هو متعلق بالدين، كعلم النحو والتصريف ومفردات اللغة وأصول الفقه وأُصول الدين، وسائر العلوم الخادمة للشريعة فإنها وإن لم توجد في الزمان الأول فأُصولها موجودة في الشرع.
(فإن قيل): فإن تصنيفها على ذلك الوجه مخترع.
(فالجواب): أن له أصلاً في الشرع، ففي الحديث ما يدل عليه، ولو سلم أنه ليس في ذلك دليل على الخصوص، فالشرع بجملته يدل على اعتباره، وهو مستمد من قاعدة المصالح المرسلة، وسيأْتي بسطها بحول الله.
فعلى القول بإثباتها أصلاً شرعياً لا إشكال في أن كل علم خادم للشريعة داخل تحت أدلته التي ليست بمأْخوذة من جزئي واحد؛ فلبست ببدعة البتة.
وعلى القول بنفيها لا بد أن تكون تلك العلوم مبتدعات، وإذا دخلت في علم البدع كانت قبيحة، لآن كل بدعة ضلالة من غير إشكال، كما يأتي بيانه إن شاء الله.
ويلزم من ذلك أن يكون كتب المصحف وجمع القرآن قبيحاً، وهو باطل بالإجماع فليس إذاً ببدعة.
ويلزم أن يكون دليل شرعي، وليس إلا هذا النوع من الاستدلال، وهو المأخوذ من جملة الشريعة.
وإذا ثبت جزئي في المصالح المرسلة، ثبت مطلق المصالح المرسلة.
فعلى هذا لا ينبغي أن يسمى علم النحو أو غيره من علوم اللسان أو علم الأصول أو ما أشبه ذلك من العلوم الخادمة للشريعة، بدعة أصلاً.
وقوله في الحد ((تضاهي الشرعية)) يعني: أنها تشابه الطريقة الشرعية من غير أن تكون في الحقيقة كذلك، بل هي مضادة لها من أوجه متعددة:
منها: وضع الحدود كالناذر للصيام قائماً لا يقعد، ضاحياً لا يستظل، والاختصاص في الانقطاع للعبادة، والاقتصار من المأكل والملبس على صنف دون صنف من غير علة.
ومنها: التزام الكيفيات والهيآت المعينة، كالذكر بهيئة الاجتماع على صوت واحد، واتخاذ يوم ولادة النبي ( عيداً، وما أشبه ذلك.
ومنها: التزام العبادات المعينة في أوقات معينة لم يوجد لها ذلك التعيين في الشريعة، كالتزام صيام يوم النصف من شعبان وقيام ليلته.
وقوله: ((يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله تعالى)) هو تمام معنى البدعة إذ هو المقصود بتشريعها.
وذلك أن أصل الدخول فيها بحث على الانقطاع إلى العبادة والترغيب في ذلك. لأن الله تعالى يقول: {وَما خَلَقْتُ الجِنَّ والإنْسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونَ}(1)، فكأن المبتدع رأى أن المقصود هذا المعنى، ولم يتبين له أن ما وضعه الشارع فيه من القوانين والحدود كافٍ.
وقد تبين بهذا القيد أن البدع لا تدخل في العادات. فكل ما اخترع من الطرق في الدين مما يضاهي المشروع ولم يقصد به التعبد فقد خرج عن هذه التسمية.
وأما الحد على الطريقة الأُخرى(2) فقد تبين معناه إلا قوله: يقصد بها ما يقصد بالطريقة الشرعية.
ومعناه أن الشريعة إنما جاءت لمصالح العباد في عاجلتهم وآجلتهم لتأْتيهم في الدارين على أكمل وجوهها، فهو الذي يقصده المبتدع ببدعته. لأن البدعة إما أن تتعلق بالعادات أو العبادات، فإن تعلقت بالعبادات فإنما أراد بها أن يأتي تعبده على أبلغ ما يكون في زعمه ليفوز بأتم المراتب في الآخرة في ظنه. وإن تعلقت بالعادات فكذلك، لأنه إنما وضعها لتأتي أمور دنياه على تمام المصلحة فيها.
وقد ظهر معنى البدعة وما هي في الشرع والحمد لله.
فصل [البدعة التَّركيَّة]
وفي الحد أيضاً معنى آخر مما ينظر فيه. وهو أن البدعة من حيث قيل فيها: إنها طريقة في الدين مخترعة ـ إلى آخره ـ يدخل في عموم لفظها البدعة التَّرْكِيَّةُ، كما يدخل فيه البدعة غير التركية فقد يقع الابتداع بنفس الترك تحريماً للمتروك أو غير تحريم، فإن الفعل ـ مثلاً ـ قد يكون حلالاً بالشرع فيحرمه الإنسان على نفسه أو يقصد تركه قصداً.
فبهذا الترك إما أن يكون لأمر يعتبر مثله شرعاً أولاً، فإن كان لأمر يعتبر فلا حرج فيه، إذ معناه أنه ترك ما يجوز تركه أو ما يطلب تركه، كالذي يحرم على نفسه الطعام الفلاني من جهة أنه يضره في جسمه أو عقله أو دينه وما أشبه ذلك، فلا مانع هنا من الترك: بل إن قلنا بطلب التداوي للمريض فإن الترك هنا مطلوب، وإن قلنا بإباحة التداوي، فالترك مباح.
وكذلك إذا ترك ما لا بأس به حذراً مما به البأس فذلك من أوصاف المتقين، وكتارك المتشابه، حذراً من الوقوع في الحرام، واستبراءَ للدين والعرض.
وإن كان الترك لغير ذلك، فإما أن يكون تديناً أولاً، فإن لم يكن تديناً فالتارك عابث بتحريمه الفعل أو بعزيمته على الترك. ولا يسمى هذا الترك بدعة إذ لا يدخل تحت لفظ الحد إلا على الطريقة الثانية القائلة: إن البدعة تدخل في العادات. وأما على الطريقة الآُولى فلا يدخل. لكن هذا التارك يصير عاصياً بتركه أو باعتقاده التحريم فيما أحل اللّه.
وأما إن كان الترك تديناً فهو الابتداع في الدين على كلتا الطريقتين، إذ قد فرضنا الفعل جائزاً شرعاً فصار الترك المقصود معارضة للشارع.
لأن بعض الصحابة همَّ أن يحرم على نفسه النوم بالليل، وآخر الأكل بالنهار، وآخر إتيان النساء، وبعضهم هم ببالاختصاء، مبالغة في ترك شأْن النساء. وفي أمثال ذلك قال النبي (: ((من رغب عن سنتي فليس مني))(1).
فإذا كل من منع نفسه من تناول ما أحل اللّه من غير عذر شرعي فهو خارج عن سنة النبي (، والعامل بغير السنة تديناً، هو المبتدع بعينه.
(فإن قيل) فتارك المطلوبات الشرعية ندباً أو وجوبباً، هل يسمى مبتدعاً أم لا؟
(فالجواب) أن التارك للمطلوبات على ضربين:
(أحدهما) أن يتركها لغير التدين إما كسلاً أو تضييعاً أو ما أشبه ذلك من الدواعي النفسية. فهذا الضرب راجع إلى المخالفة للأمر، فإن كان في واجب فمعصية وإن كان في ندب فليس بمعصية، إذا كان الترك جزئياً، وإن كلياً فمعصية حسبما تبين في الأُصول.
(والثاني) أن يتركها تديناً. فهذا الضرب من قبيل البدع حيث تدين بضد ما شرع اللّه.
فإذاً قوله في الحد: (( طريقة مخترعة تضاهي الشرعية)) يشمل البدعة التركية، كما يشمل غيرها، لآن الطريقة الشرعية أيضاً تنقسم إلى ترك وغيره.
وسواءٌ علينا قلنا: إن الترك فعل أم قلنا: إنه نفي الفعل.
وكما يشمل الحدُّ الترك يشمل أيضاً ضد ذلك.
وهو ثلاثة أقسام:
قسم الاعتقاد، وقسم القول، وقسم الفعل، فالجميع أربعة أقسام.
وبالجملة، فكل ما يتعلق به الخطاب الشرعي، يتعلق به الابتداع.